فصل: الخَامِسةُ: الصَّحيح أقْسَامٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***


الخَامِسةُ‏:‏ الصَّحيح أقْسَامٌ

أعْلاهَا ما اتَّفقَ عليه البُخَاري ومُسلم، ثمَّ ما انْفَردَ به البُخَاري، ثمَّ مسلم، ثمَّ على شَرْطهما، ثمَّ على شرط البُخَاري، ثمَّ مُسْلم، ثمَّ صحيحٌ عند غَيْرِهمَا‏.‏

الخَامسة‏:‏ الصَّحيح أقْسَام مُتفاوتة بحسب تمُكنه من شُروط الصِّحة وعدمه أعلاها ما اتَّفق عليه البُخَاري ومسلم، ثمَّ ما انفرد به البُخَاري ووجه تأخره عمَّا اتَّفقا عليه اخْتلاف العُلماء أيهما أرجح ثمَّ ما انفردَ به مُسلم، ثمَّ صحيح على شَرْطهما ولم يُخرجه واحد منهما، ووجه تأخره عمَّا اتَّفقا عليه اختلاف العُلماء أيهما أرْجح، ثمَّ ما انفردَ به مُسلم، ثمَّ صحيح على شَرْطهما، ولم يُخرجه واحد منهمَا، ووجه تأخره عمَّا أخرجه أحدهما تلقي الأمة بالقبول له ثمَّ صحيح على شرط البُخَاري، ثمَّ صحيح على شرط مسلم، ثمَّ صحيح عند غيرهما مستوفى فيه الشُّروط السَّابقة‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأوَّل‏:‏ أورد على هذا أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ المُتواتر، وأجيب بأنَّه لا يعتبر فيه عدالة، والكلام في الصَّحيح بالتَّعريف السَّابق‏.‏

الثاني‏:‏ المشهور، قال شيخ الإسلام‏:‏ وهو وارد قطعًا، قال‏:‏ وأنا متوقف في رتبته، هل هي قبل المتفق عليه أم بعده‏.‏

الثالث‏:‏ ما أخرجه السِّتة‏.‏

وأُجيب‏:‏ بأنَّ من لَمْ يَشْترط الصَّحيح في كتابه لا يزيد تَخْريجه للحديث قوة‏.‏

قال الزَّرْكشي‏:‏ ويمنع بأنَّ الفُقهاء قد يُرجحون بِمَا لا مَدْخل له في ذلكَ الشَّيء، كتقديم ابن العمِّ الشَّقيق على ابن العمِّ، للأب، وإن كان ابن العمِّ للأم لا يرث‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ نعم ما اتَّفق السِّتة على توثيق رُواته أوْلى بالصِّحة، مِمَّا اختلفوا فيه، وإن اتَّفق عليه الشَّيخان‏.‏

الرَّابع‏:‏ ما فقد شرطًا، كالاتِّصال عند من يعده صحيحًا‏.‏

الخامس‏:‏ ما فقد تمام الضَّبط ونحوه، ممَّا ينزل إلى رُتبة الحسن، عند من يسميه صَحيحًا‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ وعلى ذلك يُقَال‏:‏ ما أخرجهُ السِّتة إلاَّ واحدًا منهم، وكذا ما أخرجه الأئمة الَّذين الْتزمُوا الصِّحة، ونحو هذا، إلى أنْ تنتشرَ الأقسام فتكثُر، حتَّى يعسر حصرها‏.‏

التَّنبيه الثَّاني‏:‏ قد عُلم مِمَّا تقرر أنَّ أصح من صنَّف في الصَّحيح ابن خزيمة، ثمَّ ابن حبان، ثمَّ الحاكم، فينبغي أن يُقال‏:‏ أصحها بعد مُسلم ما اتفق عليه الثَّلاثة، ثمَّ ابن خُزيمة وابن حبَّان أو والحاكم، ثمَّ ابن حبَّان والحاكم، ثمَّ ابن خُزيمة فقط، ثمَّ ابن حبَّان فقط، ثمَّ الحاكم فقط، إنْ لم يكن الحديث على شرط أحد الشَّيخين، ولم أرَ من تعرَّض لِذلكَ فليتأمَّل‏.‏

التَّنبيه الثَّالث‏:‏ قد يعرض للمُفوق ما يجعله فَائقًا، كأنْ يتفقا على إخْرَاج حديث غريب، ويُخرج مُسْلم أو غيره حديثًا مَشْهورًا، أو ممَّا وصفت ترجمته بكونها أصح الأسَانيد، ولا يقدح ذلكَ فيما تقدَّم، لأنَّ ذلكَ باعتبار الإجمال‏.‏

قال الزَّركشي‏:‏ ومن هُنا يُعلم أنَّ ترجيح كتاب البُخَاري على مُسلم إنَّما المُراد به ترجيح الجُملة، لا كلِّ فرد من أحاديثه، على كلِّ فرد من أحاديث الآخر‏.‏

التَّنبيه الرَّابع‏:‏ فائدة التَّقسيم المَذْكُور تظهر عند التَّعارض والتَّرجيح‏.‏

التَّنبيه الخَامس‏:‏ في تحقيق شرط البُخَاري ومُسْلم قال ابن طاهر‏:‏ شرط البُخَاري ومسلم أن يُخرجا الحديث المُجْمع على ثقة رجاله إلى الصَّحابي المشهور‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وليسَ ما قالهُ بجيِّد، لأنَّ النَّسائي ضعَّف جماعة أخرج لهم الشَّيخان أو أحدهما‏.‏

وأُجيب‏:‏ بأنَّهما أخرجَا من أجمع على ثقته إلى حين تَصْنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النَّسائي بعد وجُود الكِتَابين‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ تضعيف النَّسائي إنْ كان باجْتهاده، أو نقله عن مُعاصر، فالجَوَاب ذلك، وإن نقلهُ عن مُتقدِّم فلا‏.‏

قال‏:‏ ويمكن أن يُجَاب بأنَّ ما قاله ابن طاهر هو الأصل الَّذي بيَّنا عليه أمرهما، وقد يُخرجان عنه لمرجح يقوم مَقَامه‏.‏

وقال الحاكم في «علوم الحديث»‏:‏ وصف الحديث الصَّحيح أن يرويه الصَّحابي المَشْهور بالرِّوَاية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وله راويان ثِقَتان، ثمَّ يرويه من أتباع التَّابعين الحافظ المُتقن المَشْهُور بالرِّواية، وله رُواة ثقات‏.‏

وقال في «المدخل»‏:‏ الدَّرجة الأولى من الصَّحيح اختيار البُخَاري ومسلم، وهو أن يروي الحديث عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة، بأن يروي عنه تابعيان عَدْلان، ثمَّ يروي عنه التَّابعي المشهور بالرِّواية عن الصَّحابة، وله راويان ثقتان، ثمَّ يرويه عنه من أتباع التَّابعين حافظ مُتقن، وله رُواة من الطَّبقة الرَّابعة، ثمَّ يكون شيخ البُخَاري أو مسلم حافظًا مشهورًا بالعَدَالة في روايته، ثمَّ يَتَداوله أهل الحديث بالقَبُول إلى وقتنا، كالشَّهادة على الشَّهادة‏.‏

فعَمَّم في «علوم الحديث» شرط الصَّحيح من حيث هو، وخصَّص ذلك في «المدخل» بشرط الشَّيخين وقد نقض عليه الحَازمي ما ادَّعى أنَّه شرط الشَّيخين بما في الصَّحيح من الغرائب الَّتي تفرَّد بها بعض الرُّواة‏.‏

وأُجيب بأنَّه إنَّما أرادَ أن كل راو في الكِتَابين يشترط أن يَكُون له راويان، لا أنَّه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه‏.‏

قال أبو علي الغَسَّاني، ونقلهُ عياض عنه‏:‏ ليس المُرَاد أن يَكُون كل خبر رَوَياهُ يجتمع فيه رَاوِيَان عن صحابيه، ثمَّ عن تابعيه، فمن بعده، فإنَّ ذلك يعز وجُوده، وإنَّما المُرَاد أنَّ هذا الصَّحابي، وهذا التَّابعي قد روى عنهُ رَجُلان، خرجَ بهما عن حدِّ الجَهَالة‏.‏

قال شيخُ الإسْلام‏:‏ وكأنَّ الحازمي فهمَ ذلك من قول الحَاكم كالشَّهادة على الشَّهادة، لأنَّ الشَّهادة يشترط فيها التعدُّد‏.‏

وأُجيب‏:‏ باحْتمال أن يُريد بالتَّشبيه بعض الوجُوه لا كُلِّها، كالاتِّصال، واللِّقاء، وغيرهما‏.‏

وقال أبو عبد الله ابن المواق‏:‏ ما حمل الغَسَّاني عليه كلام الحاكم، وتبعهُ عليه عِيَاض وغيره ليس بالبَيِّن، ولا أعلم أحدًا روى عنهما أنَّهما صَرَّحا بذلك، ولا وجُود له في كِتَابيهما، ولا خارجًا عنهما، فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح، لتصرفهما في كتابيهما، فلم يُصب، لأنَّ الأمرين معًا في كتابيها، وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريًا في كتابيهما، فلا دليل فيه على كونهما اشْتَرطاهُ، ولعلَّ وجُود ذلك أكْثريًا، إنَّما هو لأنَّ من روى عنه أكثر من واحد، أكثر مِمَّن لم يرو عنهُ إلاَّ واحد من الرُّواة مُطلقًا، لا بالنِّسبة إلى ما خُرِّج له منهم في «الصَّحيحين»، وليس من الإنْصَاف الزامهما هذا الشَّرط، من غير أن يثبت عنهما ذلك، مع وجود إخْلالهما به، لأنَّهما إذا صحَّ عنهما اشتراط ذلك، كان في إخْلالهما به درك عليهما‏.‏

قال شيخ الإسْلاَم‏:‏ وهذا كلام مقبول وبحث قَوِّي‏.‏

وقال في «مُقدمة شرح البُخَاري»‏:‏ ما ذكره الحاكم وإن كان مُنتقضا في حقِّ بعض الصَّحابة الَّذين أخرج لهم، إلاَّ أنَّه معتبر في حقِّ من بعدهم، فليسَ في الكتاب حديث أصل من رِوَاية من ليس له إلاَّ راو واحد فقط‏.‏

وقال الحَازمي ما حاصله‏:‏ شرط البُخَاري أن يُخرِّج ما اتَّصل إسْناده بالثِّقات المتقنين المُلازمين لمن أخذُوا عنه مُلازمة طويلة، وأنَّه قد يُخرج أحيانًا عن أعْيَان الطَّبقة الَّتي تلي هذه في الإتقان والمُلازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلاَّ مُلازمة يسيرة، وشرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية، وقد يُخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجَرْح، إذا كان طويل المُلازمة لمن أخذ عنه، كحمَّاد بن سلمة في ثابت البُناني وأيُّوب‏.‏

وقال المُصنِّف‏:‏ إنَّ المُراد بقولهم‏:‏ على شَرْطهما، أن يَكُون رجال إسْنَاده في كِتَابيهما، لأنَّه ليسَ لَهُما شرط كِتَابيهما، ولا في غَيْرهما‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهذا الكلام قد أخذهُ من ابن الصَّلاح حيث قال في «المستدرك»‏:‏ أودعهُ ما ليسَ في واحد من «الصَّحيحين» مِمَّا رآه على شَرْط الشَّيخين، وقد أخرجَا عن رواته في كتابيهما‏.‏

قال‏:‏ وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد، فإنَّه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البُخَاري مثلاً، ثمَّ يعترض عليه بأنَّ فيه فُلانًا ولم يُخرِّج له البُخَاري، وكذا فعل الذَّهبي في «مختصر المستدرك»‏.‏

قال‏:‏ وليس ذلك منهم بجيِّد، فإنَّ الحاكم صرَّح في خطبة «المستدرك» بخلاف ما فهموه عنه فقال‏:‏ وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رُواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشَّيخان أو أحدهما‏.‏

فقوله‏:‏ بمثلها‏.‏ أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل أن يُراد بمثل تلك الأحاديث، وإنَّما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها وفيه نظر‏.‏

قال‏:‏ وتحقيق المثلية أن يكون بعض من لم يخرج عنه في الصَّحيح، مثل من خرَّج عنه فيه، أو أعلى منه عند الشَّيخين، وتُعرف المثلية عندهما، إمَّا بنصبهما على أنَّ فلانًا مثل فُلان، أو أرفع منه، وقلَّما يُوجد ذلك، وإمَّا بالألفاظ الدَّالة على مراتب التَّعديل، كأن يقولا في بعض من احتجَّا به ثقة، أو ثبت أو صدوق، أو لا بأس به، أو غير ذلك من ألفاظ التَّعديل، ثمَّ يوجد عنهما أنهما قالا ذلك، أو أعلى منه في بعض من لا يحتجان به في كتابيهما، فيستدل بذلك عل أنَّه عندهما في رتبة من احتجا به، لأنَّ مراتب الرُّواة معيار معرفتها ألفاظ الجرح والتعديل‏.‏

قال‏:‏ ولكن هنا أمر فيه غُموض لا بد من الإشارة إليه، وذلك أنَّهم لا يكتفون في التصحيح بمجرد حال الرَّاوي في العَدَالة والاتِّصال من غير نظر إلى غيره، بل ينظُرون في حاله مع من روى عنه في كثرة مُلازمته له، أو قلتها، أو كونه في بلده مُمارسًا لحديثه، أو غريبًا من بلد من أخذ عنه، وهذه أُمور تَظْهر بتصفح كلامهم وعملهم في ذلك‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ ما اعترض به شيخنا على ابن دقيق العيد والذَّهبي ليس بجيَّد، لأنَّ الحاكم استعمل لفظة‏:‏ مثل، في أعم من الحقيقة، والمَجَاز في الأسانيد والمُتُون، دلَّ على ذلك صنعه، فإنَّه تارة يقول‏:‏ على شرطهما، وتارة‏:‏ على شرط البُخَاري، وتارة‏:‏ على شرط مسلم، وتارة‏:‏ صحيح الإسْنَاد، ولا يعزوه لأحدهما وأيضًا، فلو قصد بكلمة‏:‏ مثل، معناها الحَقِيقي، حتَّى يكون المُرَاد احتج بغيرها، ممَّن فيهم من الصِّفات، مثل ما في الرُّواة الذين خرَّجا عنهم، لم يَقُل قط على شرط البُخَاري، فإنَّ شرط مسلم دونه، فمَا كان على شرطه فهو على شرطهما لأنَّه حوى شَرْط مسلم وزاد‏.‏

قال‏:‏ ووراء ذلك كله أن يروي بإسناد مُلفق من رجالهما، كسماك عن عكرمة عن ابن عبَّاس، فسماك على شرط مسلم فقط، وعِكْرمة انفرد به البُخَاري، والحق أنَّ هذا ليس على شرط واحد منهما‏.‏

وأدق من هذا، أن يَرْويا عن أُنَاسٍ ثِقَات، ضُعِّفوا في أُنَاس مخصوصين من غير حديث الذين ضُعِّفوا فيهم، فيجيء عنهم حديث من طريق من ضُعِّفوا فيه برجالٍ كُلهم في الكِتَابين، أو أحدهما، فنسبته أنَّه على شرط من خرَّج له غلط، كأن يُقَال في هُشيم عن الزُّهْري، كل من هشيم والزُّهْري أخرجَا له، فهو على شرطهما، فيُقَال‏:‏ بل ليس على شرط واحد منهما، لأنَّهما إنَّما أخرجا لِهُشيم من غير حديث الزُّهْري، فإنَّه ضُعِّف فيه، لأنَّه كان دخل إليه، فأخذ منه عشرين حديثًا، فلقيه صاحب له، وهو راجع، فسأله روايته، وكان ثمَّ ريح شديدة، فذهبت بالأوراق من يد الرَّجُل فصار هُشيم يُحدِّث بما علق منها بذهنه، ولم يكن أتقن حفظها، فوهم في أشياء منها، ضُعِّف في الزُّهْري بسببها‏.‏

وكذا همَّام ضعيف في ابن جُريج، مع أنَّ كلا منهما أخرجا له، لكن لم يُخرجا له عن ابن جُريج شيئا، فعلَى من يعزو إلى شَرْطهما، أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السَّند بنسق رواية من نُسب إلى شَرْطه، ولو في موضع من كتابه‏.‏

وكذا قال ابن الصَّلاح في «شرح مسلم»‏:‏ من حكم لشخص بمجرَّد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنَّه من شرط الصَّحيح فقد غفل وأخطأ، بل ذلك مُتوقف على النَّظر في كيفية رِوَاية مسلم عنه، وعلى أيِّ وجه اعتمد عليه‏.‏

تتمة‏:‏

ألَّف الحَازمي كتابًا في شُروط الأئمة، ذكر فيه شرط الشَّيخين وغيرهما فقال‏:‏ مذهب من يُخرِّج الصَّحيح أن يُعتبر حال الرَّاوي العدل في مشايخه، وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضًا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت، يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلاَّ في الشَّواهد والمُتَابعات، وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طباق الرُّواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم‏.‏

ولنُوضح ذلك بمثال‏:‏ وهو أن تعلم أنَّ أصحاب الزُّهْري مثلا على خمس طبقات، ولكلِّ طبقة منها مزية على الَّتي تليها وتفاوت‏:‏

فمن كان في الطَّبقة الأولى فهي الغاية في الصِّحة، وهو غاية قصد البُخَاري، كمالك، وابن عُيينة، ويُونس، وعقيل الأيْلِيَّين، وجماعة‏.‏

والثانية شاركت الأولى في العَدَالة، غير أنَّ الأولى جمعت بين الحِفْظ والإتْقَان وبين طُول المُلازمة للزُّهري، بحيث كان منهم من يُلازمه في السَّفر، ويُلازمه في الحَضَر، كالليث بن سعد، والأوزاعي، والنُّعمان بن راشد، والثانية لم تُلازم الزُّهْري إلا مُدَّة يَسِيرة، فلم تُمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطَّبقة الأولى، كجعفر بن بُرْقَان، وسفيان بن حُسين السُّلمي، وزمعة بن صالح المَكِّى، وهم شرط مسلم‏.‏

والثالثة‏:‏ جماعة لزمُوا الزُّهْري، مثل أهل الطَّبقة الأولى، غير أنَّهم لم يَسْلمُوا من غوائل الجرح، فهم بين الرَّد والقَبُول كمُعَاوية بن يحيى الصَّدَفي، وإسْحاق بن يحيى الكَلْبي، والمُثنى بن الصَّباح، وهم شرط أبي داود، والنَّسائي‏.‏

والرابعة‏:‏ قومٌ شَاركوا الثَّالثة في الجرح والتَّعديل، وتفرَّدُوا بقلَّة مُمارستهم لحديث الزُّهْري، لأنَّهم لم يُلازموه كثيرًا، وهم شرط التِّرمذي‏.‏

والخامسة‏:‏ نفرٌ من الضُّعفاء والمجهولين لا يَجُوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يُخرج حديثهم إلاَّ على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود، فمن دُونه، فأمَّا عند الشَّيخين فلا‏.‏

وإذا قَالُوا‏:‏ صحيحٌ مُتَّفقٌ عليه، أو على صحَّته، فمُرَادهم اتِّفَاق الشَّيخين، وذكرَ الشَّيخ أنَّ مَا رَوَياه، أو أحدهمَا فهو مقطوعٌ بِصحَّته والعلمُ القَطْعي حاصلٌ فيه‏.‏

وإذا قالُوا‏:‏ صحيحٌ مُتَّفق عليه، أو على صحته، فمُرادهم اتِّفاق الشَّيخين لا اتفاق الأُمة‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ لكن يَلْزم من اتِّفاقهما اتِّفاق الأمة عليه، لتلقيهم له بالقَبُول‏.‏

وذكر الشَّيخ، يعني ابن الصَّلاح‏:‏ أنَّ ما رَوَياه، أو أحدهما فهو مقطوعٌ بصحَّته، والعلم القَطْعي حاصلٌ فيه‏.‏

قال‏:‏ خِلافًا لمن نَفَى ذلك مُحتجًّا بأنَّه لا يُفيد إلاَّ الظَّن، وإنَّما تلقتهُ الأُمة بالقبول لأنَّه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ‏.‏

قال‏:‏ وقد كنتُ أميل إلى هذا وأحسبه قويا، ثمَّ بان لي أنَّ الَّذي اخترناه أولاً هو الصَّحيح، لأنَّ ظن من هو معصوم من الخطأ لا يُخطئ، والأُمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد، حُجَّة مقطوعا بها‏.‏

وقد قال إمام الحَرَمين‏:‏ لو حلف إنْسَان بطلاق امرأته‏:‏ أنَّ ما في «الصَّحيحين» مِمَّا حكما بصحته من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطَّلاق، لإجماع عُلماء المسلمين على صحته‏.‏

قال‏:‏ وإن قال قائل‏:‏ إنَّه لا يحنث، ولو لم يجمع المُسلمون على صحتها للشَّك في الحنث، فإنَّه لو حلف بذلك في حديث ليسَ هذه صفته، لم يحنث وإن كان رُواته فُسَّاقًا‏.‏

فالجواب‏:‏ أنَّ المُضَاف إلى الإجماع هو القطع بعدم الحنث ظَاهرًا وبَاطنا، وأمَّا عند الشَّك فعدم الحنث محكُوم به ظَاهرًا مع احْتمال وجُوده باطنًا، حتَّى تستحب الرَّجعة‏.‏

وخَالفهُ المُحقِّقُون والأكْثُرون، فقالُوا‏:‏ يُفيدُ الظَّن ما لم يَتَواتر‏.‏

قال المُصنِّف وخالفهُ المُحققون والأكْثُرون، فقالوا‏:‏ يُفيد الظَّن ما لم يتواتر‏.‏

قال في «شرح مسلم»‏:‏ لأنَّ ذلك شأن الآحاد، ولا فَرْق في ذلك بين الشَّيخين وغَيْرهما، وتَلَقي الأُمة بالقَبُول إنَّما أفاد وجُوب العمل بما فيهما، من غير توقف على النَّظر فيه بخلاف غيرهما، فلا يُعمل به حتَّى يُنظر فيه، ويُوجد فيه شُروط الصَّحيح، ولا يَلْزم من إجْمَاع الأُمة على العمل بما فيهما، إجماعهم على القَطْع بأنَّه كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ وقد اشتد إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشَّيخ وبالغ في تغليظه‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا عاب ابن عبد السَّلام على ابن الصَّلاح هذا القول، وقال‏:‏ إنَّ بعض المُعتزلة يَرَون أنَّ الأُمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته، قال‏:‏ وهو مذهب رديء‏.‏

وقال البَلْقيني‏:‏ ما قاله النَّووي وابن عبد السَّلام ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحُفَّاظ المُتأخرين، مثل قول ابن الصَّلاح عن جماعة من الشَّافعية، كأبي إسحاق، وأبي حامد الأسفراييني، والقاضي أبي الطَّيب، والشَّيخ أبي إسْحَاق الشِّيرازي، وعن السَّرخسي من الحنفية والقَاضي عبد الوهاب من المَالكية، وأبي يَعْلى وأبي الخَطَّاب وابن الزَّاغُواني من الحَنَابلة، وابن فُورك، وأكثر أهل الكلام من الأشْعَرية وأهل الحديث قَاطبة، ومذهب السَّلف عَامة أنَّهم يَقْطعُون بالحديث الَّذي تلقته الأُمة بالقَبُول، بل بالغ ابن طاهر المَقْدسي في صِفَة التصوف، فألحق به ما كان على شَرْطهما وإن لم يُخرجاه‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ ما ذكرهُ النَّووي في «شرح مسلم» من جهة الأكثرين، أمَّا المُحقِّقون فلا، فقد وافق ابن الصَّلاح أيضًا مُحققون‏.‏

وقال في «شرح النخبة»‏:‏ الخبر المُحْتفِ بالقَرَائن يُفيد العِلْم، خلافًا لمن أبَى ذلك‏.‏

قال‏:‏ وهو أنواع‏:‏

منها‏:‏ ما أخرجه الشَّيخان في «صحيحيهما» مِمَّا لم يبلغ التَّواتر، فإنَّه احتف به قرائن‏.‏

منها‏:‏ جلالتهما في هذا الشَّأن، وتقدمهما في تَميِّيز الصَّحيح على غيرهما، وتلقى العُلماء لكتابيهما بالقَبُول، وهذا التَّلقي وحدهُ أقوى في إفَادة العِلْم من مُجرد كَثْرة الطُّرق القاصرة عن التَّواتر، إلاَّ أنَّ هذا مُختص بما لم ينتقده أحد من الحُفَّاظ مِمَّا في الكتابين، وبما لم يقع التَّجاذب بين مدلوليه، مِمَّا وقع في الكِتَابين، حيث لا ترجيح، لاسْتحَالة أن يُفيد المتناقضان العلم بصدقهما، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدَا ذلك، فالإجماع حاصل على تسليم صحته‏.‏

قال‏:‏ وما قيلَ من أنَّهم إنَّما اتَّفقوا على وجوب العَمَل به، لا على صحته ممنوعٌ، لأنَّهم اتَّفقُوا على وجُوب العمل بكلِّ ما صحَّ، ولو لم يُخرجاه، فلم يبق للصَّحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصلٌ على أنَّ لهُمَا مزية فيما يرجع إلى نفس الصِّحة‏.‏

قال‏:‏ ويُحتمل أن يُقَال‏:‏ المزية المَذْكُورة كون أحاديثهم أصح الصَّحيح‏.‏

قال‏:‏ ومنها المَشْهور، إذا كانت له طرق مُتباينة سالمة من ضعف الرُّواة والعلل، ومِمَّن صرَّح بإفادته العلم النَّظري الأستاذ أبو منصُور البغدادي‏.‏

قال‏:‏ ومنها المُسَلسل بالأئمة الحُفَّاظ المُتقنين حيثَ لا يَكُون غَريبًا كحديث يرويه أحمد مثلا، ويُشَاركه فيه غيره عن الشَّافعي، ويُشَاركه فيه غيره عن مالك، فإنَّه يُفيد العِلْم عند سَمَاعه بالاسْتدلال من جهة جلالة رُواته‏.‏

قال‏:‏ وهذه الأنواع الَّتي ذَكَرناها لا يحصل العِلْم بصدق الخَبر فيها إلاَّ للعالم المُتبحِّر في الحديث، العارف بأحوال الرُّواة والعلل، وكون غيره لا يحصل له العلم لِقُصوره عن الأوصاف المذكورة، ولا ينفي حُصُول العلم للمتبحِّر المَذْكُور‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن كثير‏:‏ وأنا مع ابن الصَّلاح فيما عَوَّل عليه وأرْشد إليه‏.‏

قلت‏:‏ وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه، نعم يبقى الكلام في التَّوفيق بينهُ وبين ما ذكرهُ أولاً من أنَّ المُرَاد بقولهم‏:‏ هذا حديثٌ صحيح، أنَّه وجدت فيه شُروط الصِّحة، إلاَّ أنَّه مقطوع به في نفس الأمر، فإنَّه مُخَالف لِمَا هنا، فلينظر في الجمع بينهُمَا، فإنَّه عسر، ولم أر من تنبَّه له‏.‏

تنبيه‏:‏

استثنى ابن الصَّلاح من المقطُوع بصحَّته فيهما ما تكلَّم فيه من أحاديثهما، فقال‏:‏ سوى أحرف يسيرة تكلَّم عليها بعض أهل النَّقد من الحُفَّاظ كالدَّارقُطْني وغيره‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ وعدة ذلك مئتان وعشُرون حديثًا اشتركا في اثنين وثلاثين، واختصَّ البُخَاري بثمانين إلاَّ اثنين، ومسلم بمئة وعشرة‏.‏

فقال المُصنِّف في «شرح البُخَاري»‏:‏ ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ فكأنَّه مال بهذا إلى أنَّه ليس فيهما ضعيف، وكلامه في «شرح مسلم» يقتضي تقرير قول من ضعف، فكان هذا بالنسبة إلى مقامهما، وأنَّه يدفع عن البُخَاري ويُقرِّر على مُسْلم‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وقد أفردتُ كتاب لما تكلَّم فيه في «الصَّحيحين» أو أحدهما مع الجَوَاب عنه‏.‏

قال شيخُ الإسْلام‏:‏ ولم يُبيض هذا الكتاب، وعُدمت مُسَودته، وقد سردَ شيخ الإسْلام ما في البُخَاري من الأحاديث المُتكلَّم فيها في «مقدمة»شرحه، وأجاب عنها حديثا حديثا‏.‏

ورأيتُ فيما يتعلَّق بمُسلم تأليفا مخصُوصا فيما ضُعِّف من أحاديثه، بسبب ضعف رُواته، وقد ألَّف الشَّيخ ولي الدين العِرَاقي كتابًا في الرَّد عليه‏.‏

وذكر بعض الحُفَّاظ أنَّ في كتاب مسلم أحاديث مُخالفة لشرط الصَّحيح، بعضها أُبْهم راويه، وبعضها فيه إرْسَال وانْقطاع، وبعضها فيه وجَادة، وهي في حكم الانقطاع، وبعضها بالمكاتبة‏.‏

وقد ألَّف الرَّشيد العَطَّار كتابًا في الرَّد عليه، والجواب عنها حديثًا حديثًا وقد وقفتُ عليه، وسيأتي نقل ما فيه مُلخصًا مُفرَّقا في المواضع اللائقة به إن شَاء الله تعالى، ونُعجِّل هُنا بجواب شامل، لا يختص بحديث دون حديث‏.‏

قال شيخُ الإسْلام في «مُقدمة شرح البُخَاري» الجواب من حيث الإجمال عمَّا انْتُقد عليهما، أنَّه لا ريب في تقدم البُخَاري، ثمَّ مسلم على أهل عَصْرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصَّحيح والعلل، فإنَّهم لا يختلفون أنَّ ابن المَدِيني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنهُ أخذ البُخَاري ذلك، ومع ذلكَ، فكان ابن المَدِيني إذا بلغهُ عن البُخَاري شيء يَقُول‏:‏ ما رأى مثل نفسهِ، وكان محمَّد بن يحيى الذُّهلي أعلم أهل عَصْرهِ بعلل حديث الزُّهْري، وقد استفاد ذلك منه الشَّيخان جميعا‏.‏

وقال مسلم‏:‏ عرضتُ كتابي على أبي زرعة الرَّازي، فمَا أشار أنَّ له عِلَّة تركته‏.‏

فإذا عُرف ذلك، وتقرَّر أنَّهما لا يُخرجان من الحديث إلاَّ ما لا عِلَّة له، أو له عِلَّة غير مُؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يَكُون قوله مُعَارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجُمْلة، وأمَّا من حيث التفصيل فالأحاديث الَّتي انتقدت عليهما سِتَّة أقسام‏:‏

الأوَّل‏:‏ ما يختلف الرُّواة فيه بالزِّيادة والنَّقص من رجال الإسْنَاد، فإن أخرج صاحب الصَّحيح الطَّريق المزيدة، وعلَّله الناقد بالطريق الناقصة، فهو تعليل مردود، لأنَّ الرَّاوي إن كان سمعهُ فالزِّيادة لا تضر، لأنَّه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثمَّ لقيهُ فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطَّريق النَّاقصة، فهو منقطع، والمنقطع ضعيف، والضعيف لا يعل الصحيح‏.‏

ومن أمثلة ذلك ما أخرجاهُ من طريق الأعمش عن مُجَاهد عن طاووس عن ابن عبَّاس في قصة القبرين‏.‏

قال الدَّارقُطْني في انتقاده‏:‏ قد خالف منصور، فقال‏:‏ عن مُجَاهد عن ابن عبَّاس، وأخرج البُخَاري حديث منصور على إسقاط طاووس، قال‏:‏ وحديث الأعمش أصح‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ وهذا في التَّحقيق ليس بعلَّة، فإنَّ مُجَاهدا لم يُوصف بالتَّدليس، وقد صحَّ سَماعه من ابن عبَّاس، ومنصور عندهم أتقن من الأعمش، والأعمش أيضًا من الحُفَّاظ، فالحديث كيفما دار، دار على ثقة، والإسناد كيفما دار، كان مُتَّصلاً، وقد أكثر الشيخان من تخريج مثل هذا، وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق النَّاقصة، وعلَّله الناقد بالمزيدة، تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صحَّحه المُصنِّف، فينظر إن كان الرَّاوي صحابيا، أو ثقة غير مُدلِّس، قد أدرك من روى عنه إدراكا بينًا، أو صرَّح بالسَّماع إن كان مدلِّسًا من طريق أخرى، فإن وجد ذلكَ اندفعَ الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد وكان الانقطاع ظاهرًا، فمحصل الجَوَاب أنَّه إنَّما أخرج مثل ذلك، حيث له سائغ وعاضد، وحفته قرينة في الجملة تقويه، ويكُون التَّصحيح وقع من حيث المَجْمُوع‏.‏

مثاله‏:‏ ما رواه البُخَاري من حديث أبي مروان، عن هِشَام بن عُروة، عن أبيه، عن أمِّ سَلَمة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ «إذَا صَلَّيتِ الصُّبح فَطُوفي على بَعيرك والنَّاس يُصَلُّون‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ هذا مُنقطع، وقد وَصَلهُ حفص بن غِيَاث، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أمِّ سلمة، ووصله مالك في «الموطأ» عن أبي الأسْود عن عُروة كذلك‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ حديث مالك عندَ البُخَاري مقرون بحديث أبي مروان، وقد وقع في رِوَاية الأصيلي، عن هِشَام، عن أبيه، عن زينب، عن أمِّ سَلَمة موصُولاً، وعليها اعتمد المِزِّي في «الأطراف» ولكن مُعظم الرِّوايات على إسْقَاط زينب‏.‏

قال أبو علي الجِيَاني‏:‏ وهو صحيح، وكذا أخرجهُ الإسْمَاعيلي بإسْقَاطه، من حديث عَبْدة بن سُليمان ومُحاضر وحسَّان بن إبراهيم، كُلهم عن هِشَام، وهو المحفُوظ من حديثه، وإنَّما اعتمدَ البُخَاري فيه رِوَاية مالك، الَّتي أثبت فيها ذكر زينب، ثمَّ ساق معها رواية هشام الَّتي أسقطت منها، حاكيًا للخلاف فيه على عروة كَعَادته، مع أنَّ سَمَاع عُروة من أمِّ سلمة ليسَ بالمُستبعد‏.‏

قال‏:‏ وربَّما علَّل بعض النُّقاد أحاديث ادَّعى فيها الانقطاع، لكونها مَرْوية بالمُكَاتبة والإجَازة، وهذا لا يلزم منهُ الانقطاع عند من يُسوِّغ ذلك، بل في تخريج صاحب الصَّحيح لمثل ذلك دليل على صحَّته عنده‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما تختلف الرُّواة فيه بتغيير رِجَال بعض الإسْنَاد، والجَوَاب عنه أنَّه إن أمْكَن الجمع بأن يَكُون الحديث عند ذلكَ الرَّاوي على الوجهين، فأخرجهما المُصنِّف، ولم يقتصر على أحدهما حيث يكون المُختلفون في ذلك مُتعادلين في الحفظ والعدد، أو مُتفاوتين، فيخرج الطَّريقة الرَّاجحة ويعرض عن المَرْجُوحة، أو يُشير إليها، فالتعليل بجميع ذلك لمُجَرَّد الاختلاف غيرُ قادح، إذ لا يَلْزم من مُجَرَّد الاختلاف اضطراب يُوجب الضَّعف‏.‏

الثَّالث‏:‏ ما تفرَّد فيه بعض الرُّواة، بزيادة لم يذكرها أكثر منه أو أضبط، وهذا لا يُؤثر التَّعليل به، إلاَّ إن كانت الزِّيادة مُنَافية، بحيث يتعذَّر الجمع، وإلاَّ فهي كالحديث المُستقل، إلاَّ إن وضح بالدليل القوي أنَّها مُدْرجة من كلام بعض رُواته فهو مؤثر، وسيأتي مثاله في المُدْرج‏.‏

الرَّابع‏:‏ ما تفرَّد به بعض الرُّواة مِمَّن ضُعِّف، وليس في الصَّحيح من هذا القبيل غير حديثين، تبين أنَّ كُلاًّ منهما قد تُوبع‏.‏

أحدهما‏:‏ حديث إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن زيد بن أسْلم، عن أبيه، أنَّ عُمر استعملَ مولى له يُدعى هُنيًا على الحِمَى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث بطوله‏.‏

قال الدَّارقُطْني‏:‏ إسْمَاعيل ضعيف‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ولم يَنْفرد به، بل تابعهُ معن بن عيسى، عن مَالك، ثمَّ إن إسماعيل ضعفهُ النَّسائي وغيره، وقال أحمد وابن معين في رواية‏:‏ لا بأس به، وقال أبو حاتم‏:‏ محله الصِّدق، كان مُغفَّلاً، وقد صحَّ أنَّه أخرج للبُخَاري أُصوله وأذن له أن ينتقي منها، وهو مُشْعر بأنَّ ما أخرجهُ البُخَاري عنه من صحيح حديثه، لأنَّه كتب من أصوله، وأخرج له مسلم أقل مِمَّا أخرج له البُخَاري‏.‏

ثانيهما‏:‏ حديث أُبَي بن عبَّاس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جدِّه قال‏:‏ كان للنَّبي صلى الله عليه وسلم فرس يُقال له‏:‏ اللحيف‏.‏

قال الدَّارقُطْني أُبي ضعيف‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ تابعهُ عليه أخوه عبد المُهيمن‏.‏

القسم الخامس‏:‏ ما حكم فيه على بعض الرُّواة بالوهم، فمنه مالا يؤثر قدحًا، ومنه ما يؤثر‏.‏

السَّادس‏:‏ ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره، لا يترتب عليه قدح، لإمكان الجمع أو الترجيح‏.‏ انتهى‏.‏

فائدة تتعلق بالمتفق عليه‏:‏

قال الحاكم‏:‏ الحديث الصَّحيح ينقسم عَشْرة أقْسَام، خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها‏:‏

فالأوَّل من المتفق عليها‏:‏ اختيار البُخَاري ومسلم، وهو الدَّرجة الأولى من الصَّحيح، وهو الحديث الذي يرويه الصَّحابي المشهور‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر كلامه السَّابق، وقد تقدَّم ما فيه‏.‏

الثَّاني‏:‏ مثل الأوَّل، إلاَّ أنَّه ليس لراويه الصَّحابي إلاَّ راو واحد، مثاله حديث عروة بن مُضَرِّس، لا راوي له غير الشَّعبي، وذكر أمثلةً أُخرى، ولم يُخرجا هذا النَّوع في الصَّحيح‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ بل فيهما جُملة من الأحاديث عن جَمَاعة من الصَّحابة ليس لهم إلاَّ راو واحد، وقد تعرَّض المُصنِّف لذلك في نوع الوحدان، وسيأتي فيه مزيد كلام‏.‏

الثَّالث‏:‏ مثل الأوَّل، إلاَّ أنَّ راويه من التابعين ليس له إلاَّ راو واحد، مثل محمَّد بن جُبير، وعبد الرَّحمن بن فَرُّوخ، وليس في الصَّحيح من هذه الرِّوايات شيء، وكلها صحيحة‏.‏

قال شيخ الإسلام في «نكته»‏:‏ بل فيهما القليل من ذلك، كعبد الله بن وديعة، وعُمر بن محمَّد بن جُبير بن مطعم، وربيعة بن عَطَاء‏.‏

الرَّابع‏:‏ الأحاديث الأفراد الغَرَائب الَّتي ينفرد بها ثقة من الثِّقات، كحديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هُريرة في النَّهي عن الصَّوم إذا انْتَصفَ شعبان، تركهُ مُسلم لتفرُّد العلاء به، وقد أخرجَ بهذه النُّسخة أحاديث كثيرة‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ بل فيهما كثير منه، لعلَّهُ يزيد على مئتي حديث، وقد أفردها الحافظ ضياء الدين المَقْدسي، وهي المعروفة «بغرائب الصَّحيح»‏.‏

الخامس‏:‏ أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، لم تتواتر الرِّواية عن آبائهم عن أجدادهم إلاَّ عنهم، كعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، وبَهْز بن حَكِيم عن أبيه عن جدِّه، وإياس بن معاوية بن قُرَّة عن أبيه عن جدِّه، أجدادهم صحابة، وأحفادهم ثقات، فهذه أيضًا يحتج بها مخرَّجة في كتب الأئمة دونَ «الصَّحيحين»‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ ليسَ المَانع من إخراج هذا القسم في «الصَّحيحين» كون الرِّواية وقعت عن الأب عن الجد، بل لِكَون الرَّاوي، أو أبيه ليسَ على شَرْطهما، وإلاَّ ففيهما، أو في أحدهما من ذلك رواية علي بن الحُسين بن علي عن أبيه عن جدِّه، ورواية محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عُمر عن أبيه عن جدِّه، ورواية أُبي بن عبَّاس بن سهل، عن أبيه عن جدِّه، ورواية إسْحَاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه عن جدِّه، ورواية الحسن وعبد الله ابني محمَّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما عن جدِّهما، ورواية حفص بن عاصم بن عُمر بن الخطَّاب عن أبيه عن جده، وغير ذلك‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا الأقْسَام المُختلف فيها، فهي‏:‏ المرسل، وأحاديث المُدلسين إذا لم يذكروا سماعهم، وما أسنده ثقة وأرسله ثقات، وروايات الثِّقات غير الحُفَّاظ العارفين، وروايات المُبتدعة إذا كانوا صادقين‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ أمَّا الأول والثَّاني فكمَا قال، وأمَّا الثَّالث فقد اعترضَ عليه العلائي، بأنَّ في «الصَّحيحين» عِدَّة أحاديث اخْتُلف في وصلها وإرْسَالها‏.‏

قال شيخ الإسْلام‏:‏ ولا يُرد عليه، لأنَّ كلامه فيما هو أعم من «الصَّحيحين»‏.‏

وأمَّا الرَّابع فقال العلائي‏:‏ هو مُتفق على قَبُوله والاحتجاج به، إذا وجدت فيه شرائط القبول، وليس من المختلف فيه ألبته، ولا يبلغ الحفَّاظ العارفون نصف رواة «الصَّحيحين» وليس كونه حافظًا شرطًا، وإلاَّ لما احتجَّ بغالب الرُّواة‏.‏

وقال شيخ الإسْلام‏:‏ الحاكم إنَّما فرض الخِلاف فيه بين أكثر أهل الحديث وبين أبي حنيفة ومالك‏.‏

قال‏:‏ وأمَّا الخامس، فكما ذُكِرَ من الاختلاف فيه، لكن في «الصَّحيحين» أحاديث عن جماعة من المُبتدعة، عرف صدقهم، واشتهرت معرفتهم بالحديث، فلم يُطرحوا للبدعة‏.‏

قال‏:‏ وقد بقي عليه من الأقسام المختلف فيها رواية مجهول العَدَالة، وكذا قال المُصنِّف في «شرح مسلم»‏.‏

وقال أبو علي الحُسين بن محمَّد الجياني، فيما حكاهُ المُصنِّف‏:‏ الناقلون سبع طبقات، ثلاثة مقبولة، وثلاث مردودة، والسَّابعة مختلف فيها‏.‏

فالأولى من المقبولة‏:‏ أئمة الحديث وحفَّاظهم، يقبل تفردهم، وهم الحجة على من خالفهم‏.‏

والثَّانية‏:‏ دونهم في الحفظ والضَّبط، لحقهم بعض وهم‏.‏

والثَّالثة‏:‏ قومٌ ثبت صدقهم ومعرفتهم، لكن جنحُوا إلى مذاهب الأهواء، من غير أن يكونوا غُلاة ولا دُعَاة‏.‏

فهذه الطَّبقات احتمل أهل الحديث الرِّواية عنهم، وعليهم يدور نقل الحديث‏.‏

والأولى من المردودة‏:‏ من وُسِمَ بالكذب ووضع الحديث‏.‏

والثَّانية‏:‏ من غلب عليه الوهم والغلط‏.‏

والثَّالثة‏:‏ قومٌ غلوا في البدعة ودعوا إليها، فحرَّفوا الرِّوايات ليحتجُّوا بها‏.‏

وأمَّا السَّابع المختلف فيه‏:‏ فقومٌ مجهولون، انفردوا بروايات، فقَبِلهم قومٌ، وردَّهم آخرون‏.‏

قال العلائي‏:‏ وهذه الأقسام الَّتي ذكرها ظاهرة، لكنها في الرُّواة‏.‏ انتهى‏.‏

السَّادسة‏:‏ من رأى في هذه الأزْمَان حَدِيثًا صحيحَ الإسْنَاد في كِتَاب أو جُزْء لم يَنُص على صِحَّته حافظٌ مُعتمدٌ‏.‏

قال الشَّيخ‏:‏ لا يُحكم بصحَّته، لِضَعْفِ أهْليَّة أهل هذه الأزْمَان، والأظهرُ عِنْدي جَوازهُ لِمنْ تمكَّن وقَويتْ مَعْرفتهُ‏.‏

السَّادسة من مسائل الصَّحيح من رأى في هذه الأزْمَان حديثًا صحيح الإسْنَاد في كتاب أو جزء، لم يَنُص على صحَّته حافظٌ مُعتمد في شيء من المُصنَّفات المشهورة‏.‏

قال الشَّيخ ابن الصَّلاح‏:‏ لا يُحْكم بصحَّته لِضَعْف أهْلية أهل هذه الأزْمَان قال‏:‏ لأنَّه ما من إسْنَاد من ذلك، إلاَّ ونجد في رِجَاله من اعتمدَ في روايته على ما في كِتَابه عَرِيًا، عمَّا يشترط في الصَّحيح من الحفظِ والإتقان‏.‏

قال في «المنهل الرَّوي»‏:‏ مع غلبة الظَّن، أنَّه لو صَحَّ، لما أهملهُ أئمة الأعْصَار المُتقدمة، لِشدَّة فحصهم واجْتهادهم‏.‏

قال المُصنِّف‏:‏ والأظْهر عندي جَوَازه لمن تمكَّن وقَوِيت معرفته‏.‏

قال العِرَاقي‏:‏ وهو الَّذي عليه عمل أهل الحديث، فقد صحَّح جماعة من المُتأخِّرين أحاديث، لم نجد لمن تقدَّمهم فيها تَصْحيحًا، فمن المُعاصرين لابن الصَّلاح‏:‏

أبو الحسن علي بن محمَّد بن عبد الملك ابن القَطَّان، صاحب كتاب «الوهم والإيهام» صحَّح فيه حديث ابن عمر‏:‏ أنَّه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه، ويمسح عليهما ويقول‏:‏ كذلكَ كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يفعل‏.‏ أخرجهُ البزَّار‏.‏

وحديث أنس‏:‏ كان أصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصَّلاة، فيضعُون جُنُوبهم، فمنهم من يَنَام، ثمَّ يَقُوم إلى الصَّلاة‏.‏ أخرجهُ قاسم بن أصْبغ‏.‏

ومنهم‏:‏ الحافظ ضياء الدِّين مُحمَّد بن عبد الواحد المَقْدسي، جمع كِتَابًا سمَّاه «المُختارة» التزمَ فيه الصحَّة، وذكر فيه أحاديث لم يُسبق إلى تَصْحيحها‏.‏

وصحَّح الحافظ زَكيُّ الدِّين المنذري حديث بحر بن نصر، عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزُّهْري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هُرَيْرة في غُفران ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر‏.‏

ثمَّ صحَّح الطبقة التي تلي هذه، فصحَّح الحافظ شرف الدِين الدمياطي حديث جابر‏:‏ «مَاءُ زَمْزَم لمَا شُرِبَ لهُ»‏.‏

ثمَّ صحَّح طبقة بعد هذه فصحَّح الشَّيخ تقي الدِّين السُّبكي حديث ابن عمر في الزِّيارة‏.‏

قال‏:‏ ولم يزل ذلكَ دأب من بلغَ أهلية ذلك منهم، إلاَّ أنَّ منهم من لا يقبل ذلك، وكذا كان المتقدِّمون ربَّما صحَّح بعضهم شيئا، فأُنكر عليه تصحيحه‏.‏

وقال شيخُ الإسلام‏:‏ قد اعترض على ابن الصَّلاح كل من اختصرَ كلامه، وكلهم دفعَ في صدر كلامه من غير إقَامة دليل، ولا بَيَان تعليل، ومنهم من احتجَّ بمُخالفة أهل عَصْره ومن بعده له في ذلك، كابن القَطَّان، والضياء المَقْدسي، والزَّكي المُنْذري، ومن بعدهم، كابن المواق، والدمياطي، والمِزِّي، ونحوهم، وليسَ بوارد، لأنَّه لا حجة على ابن الصَّلاح بعمل غيره، وإنَّما يُحتج عليه بإبطال دليل، أو مُعارضته بما هو أقوى منه، ومنهم من قال‏:‏ لا سلف له في ذلك، ولعلَّه بناهُ على جَوَاز خُلو العَصْر من المُجْتهد، وهذا إذا انضم إلى ما قبلهُ من أنَّه لا سلف له فيما ادَّعاهُ وعمل أهل عصره ومن بعدهم على خلاف ما قال، انتهض دليلاً للردِّ عليه‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ إنَّ في عِبَارته مُناقشات‏:‏

منها‏:‏ قوله‏:‏ فإنَّا لا نَتجَاسر، ظاهره أنَّ الأولى ترك التعرض له، لمَا فيه من التَّعب والمشقة، وإن لم ينهض إلى درجة التعذر فلا يَحْسُن قوله بعد ذلك فقد تعذَّر‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّه ذكر مع الضبط‏:‏ الحفظ والإتقان، وليست مُتغايرة‏.‏

ومنها‏:‏ أنَّه قابل بعدم الحفظ وجُود الكتاب، فأفهم أنَّه يَعِيب من حدَّث من كِتَابه، ويُصَوِّب من حدَّث عن ظهر قلبه، والمعرُوف من أئمة الحديث خلافُ ذلك، وحينئذ فإذا كان الرَّاوي عدلاً لكن لا يحفظ ما سمعهُ عن ظهر قلب، واعتمد ما في كتابه فحدَّث منهُ فقد فعل اللازم له، فحديثه على هذه الصُّورة صحيح‏.‏

قال‏:‏ وفي الجُملة ما استدلَّ به ابن الصَّلاح من كَوْنِ الأسَانيد ما منها إلاَّ وفيه من لم يبلغ درجة الضَّبط المُشترطة في الصَّحيح إن أرادَ أن جميع الإسْنَاد كذلك فهو ممنوع، لأنَّ من جُملته من يكون من رجال الصَّحيح، وقلَّ أن يخلُو إسْنَاد عن ذلك، وإنْ أرادَ بعض الإسْنَاد كذلك فمُسَلَّم، لكن لا ينهض دليلاً على التعذُّر، إلاَّ في جزء ينفرد بروايته من وصف بذلكَ‏.‏

أمَّا الكِتَاب المشهُور، الغَنِي بشُهرته عن اعتبار الإسْنَاد منَّا إلى مُصنِّفه كالمسانيد والسُّنن ما لا يحتاج في صِحَّة نسبتها إلى مُؤلفها، إلى اعتبار إسْنَاد مُعيَّن فإنَّ المُصنِّف منهم إذا روى حديثًا، ووجدت الشَّرائط فيه مجمُوعة، ولم يَطَّلع المُحدِّث المُتقن المُطَّلع فيه على عِلَّة، لم يمتنع الحُكْم بصحته، ولو لم يَنُص عليها أحد من المُتقدمين‏.‏

قال‏:‏ ثمَّ ما اقتضاهُ كلامه من قَبُول التصحيح من المتقدمين، وردِّه من المتأخرين، قد يستلزم رد ما هو صحيح، وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حَكَمَ بصحَّته إمامٌ متقدم، اطَّلع المتأخر فيه على عِلَّة قادحة، تمنع من الحكم بصحَّته، ولا سيما إن كان ذلك المتقدِّم مِمَّن لا يرى التفرقة بين الصَّحيح والحسن، كابن خُزَيمة وابن حبَّان‏.‏

قال‏:‏ والعجبُ منه كيف يدَّعي تعميم الخلل في جمع الأسَانيد المُتأخرة، ثمَّ يقبل تصحيح المُتقدِّم، وذلكَ التصحيح إنَّما يتصل للمتأخر بالإسْنَاد الَّذي يدَّعي فيه الخَلَل، فإن كان ذلك الخلل مانعًا من الحُكم بصحَّة الإسْنَاد، فهو مانع من الحُكْم بقبول ذلكَ التَّصحيح، وإن كان لا يُؤثر في الإسْنَاد في مثل ذلك، لِشُهرة الكِتَاب كما يرشد إليه كلامهُ، فكذلك لا يُؤثر في الإسْنَاد المُعيَّن الَّذي يتصل به رواية ذلك الكتاب إلى مؤلفه، وينحصر النَّظر في مثل أسانيد ذلك المُصنِّف منه فصاعدًا، لكن قد يقوى ما ذهبَ إليه ابن الصَّلاح بوجه آخر، وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المُتقدمين‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّ الحامل لابن الصَّلاح على ذلك، أنَّ «المستدرك» للحاكم كتاب كبير جدًّا يصفو له منه صحيح كثير، وهو مع حرصه على جمع الصحيح، غزير الحفظ، كثير الاطلاع، واسع الرِّواية، فيبعد كل البعد أن يُوجد حديث بشرائط الصِّحة، لم يخرجه، وهذا قد يقبل لكنَّه لا ينهض دليلاَّ على التعذر‏.‏

قلتُ‏:‏ والأحْوطِ في مثل ذلك، أن يعبَّر عنه بصحيح الإسْنَاد، ولا يطلق التَّصحيح لاحتمال عِلَّة للحديث خَفِيت عليه، وقد رأيتُ من يُعبِّر خشية من ذلك بقوله‏:‏ صحيح إن شاء الله تعالى‏.‏

وكثيرًا ما يَكُون الحديث ضعيفًا، أو واهيًا، والإسْنَاد صحيح مُركَّب عليه، فقد روى ابن عساكر في «تاريخه» من طريق علي بن فارس، حدثنا مَكِّي بن بندار، حدثنا الحسن بن عبد الواحد القَزْويني، حدَّثنا هِشَام بن عمَّار، حدثنا مالك، عن الزُّهْري، عن أنس مرفوعًا‏:‏ «خُلِقَ الوَرْد الأحْمر من عِرْق جبريل ليلة المِعْراج، وخلق الورد الأبيض من عِرْقي، وخُلِقَ الورد الأصْفر من عِرْق البُرَاق»‏.‏

قال ابن عَسَاكر‏:‏ هذا حديث مُوضوع وضعه من لا عِلْمَ له، وركَّبه على هذا الإسناد الصَّحيح‏.‏

تنبيه‏:‏

لم يتعرَّض المُصنِّف ومن بعده، كابن جَمَاعة وغيرهُ، مِمَّن اختصرَ ابن الصَّلاح، والعِرَاقي في «الألفية» والبَلْقيني وأصْحَاب النكت إلاَّ للتصحيح فقط، وسكتُوا عن التَّحسين، وقد ظهرَ لي أن يُقال فيه‏:‏

إنَّ من جَوَّز التَّصحيح، فالتَّحسين أوْلَى، ومن منع فيحتمل أن يُجوِّزه، وقد حسَّن المِزِّي حديث‏:‏ «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضةٌ»‏.‏ مع تصريح الحُفَّاظ بتضعيفه، وحسَّن جماعة كثيرون أحاديث، صرَّح الحُفَّاظ بتضعيفها، ثمَّ تأملت كلام ابن الصَّلاح، فرأيتهُ سوَّى بينه وبين التَّصحيح، حيث قال‏:‏ فآل الأمر إذَنْ في معرفة الصَّحيح والحسن، إلى الاعتماد على ما نصَّ عليه أئمة الحديث في كُتبهم‏.‏ إلى آخره‏.‏

وقد منعَ فيما سيأتي، ووافقه عليه المُصنِّف وغيره أن يَجْزم بتضعيف الحديث اعتمادًا على ضعف إسناده، لاحتمال أن يكون له إسناد صحيح غيره، فالحاصل أنَّ ابن الصَّلاح سدَّ باب التصحيح والتَّحسين والتضعيف على أهل هذه الأزمان، لضعف أهليتهم، وإن لم يوافق على الأوَّل، ولا شكَّ أنَّ الحُكْم بالوضع، أولى بالمنع قطعًا، إلاَّ حيث لا يخفى، كالأحاديث الطِّوال الرَّكيكة، التي وضعها القُصَّاص، أو ما فيه مُخَالفة للعقل أو الإجماع‏.‏

وأمَّا الحُكم للحديث بالتواتر، أو الشُّهرة، فلا يمتنع إذا وجدت الطُّرق المُعتبرة في ذلك، وينبغي التوقف عن الحُكْم بالفَرْدية والغَرَابة، وعن العِزَّة أكثر‏.‏

ومَنْ أرادَ العملَ بحديثٍ من كِتَابٍ، فطريقهُ أن يأخذَهُ من نُسْخة مُعتمدة قابَلَها هُوَ، أو ثقة بأصُول صَحيحة، فإن قابَلَها بأصْلٍ مُحقَّق مُعتمَّدٍ أجزأهُ‏.‏

ومن أرَادَ العملَ أو الاحتجاج بحديثٍ من كتاب من الكُتب المُعتمدة، وقال ابن الصَّلاح‏:‏ حيث ساغ له ذلك فطريقة أن يأخذه من نسخة معتمدة، قابلها هو أو ثقة بأصول صحيحة‏.‏

قال ابن الصَّلاح‏:‏ ليحصل له بذلك- مع اشتهار هذه الكتب، وبُعدها عن أن يُقْصدَ بها التبديل والتحريف- الثِّقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصُول‏.‏

وفهمَ جماعة من هذا الكلام الاشْتراط، وليسَ فيه ما يُصرِّح بذلك ولا يقتضيه، مع تصريح ابن الصَّلاح باستحباب ذلك في قسم الحسن، حيث قال في التِّرمذي‏:‏ فينبغي أن تُصحِّح أصلك بجماعة أصول، فأشار بينبغي إلى الاسْتحباب، ولذلكَ قال المُصنِّف زيادةَ عليه‏:‏ فإن قابلهَا بأصلٍ مُحقَّق مُعتمد أجزأهُ ولم يورد ذلكَ مورد الاعتراض، كمَا صنع في مسألة التَّصحيح قبلهُ، وفي مسألة القَطْع بما في «الصَّحيحين» وصرَّح أيضًا في «شرح مسلم» بأنَّ كلام ابن الصَّلاح محمولٌ على الاستظهار والاستحباب، دون الوجُوب، وكذا في «المنهل الرَّوي»‏.‏

خاتمة‏:‏

زاد العِرَاقي في «ألفيته» هُنَا‏:‏ لأجل قول ابن الصَّلاح حيث ساغ له ذلك، أنَّ الحافظ أبا بكر محمَّد بن خير بن عُمر الأموي بفتح الهمزة الإشبيلي، خال أبي القاسم السُّهيلي قال في «برنامجه»‏:‏ اتَّفَق العُلماء على أنَّه لا يصح لمُسلم أن يقول‏:‏ قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كذا، حتَّى يكون عنده ذلك القول مَرْويًا، ولو على أقلِّ وجوه الرِّوايات لحديث‏:‏ «مَنْ كَذبَ عليَّ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يتعقَّبه العِرَاقي، وقد تعقَّبه الزَّرْكشي في جُزء له فقال فيما قرأتهُ بخطِّه‏:‏ نقلُ الإجماع عجيب، وإنَّما حَكَى ذلك عن بعض المُحدِّثين، ثمَّ هو مُعارض بنقل ابن بُرهان إجماع الفُقهاء على الجَوَاز، فقال في «الأوسط»‏:‏ ذهب الفُقهاء كافة إلى أنَّه لا يتوقف العملَ بالحديث على سَمَاعه، بل إذا صحَّ عنده النُّسخة جازَ العمل بها، وإن لم يسمع‏.‏

وحكَى الأسْتاذ أبو إسْحَاق الإسْفراييني الإجماع على جَوَاز النَّقل من الكُتب المُعتمدة، ولا يشترط اتِّصال السَّند إلى مصنفيها، وذلك شامل لكتب الحديث والفقه‏.‏

وقال إلْكِيا الطَّبري في تعليقه‏:‏ من وجد حديثًا في كتاب صحيح جاز له أن يرويهُ ويحتج به، وقال قومٌ من أصْحَاب الحديث‏:‏ لا يجوز له أن يرويه، لأنَّه لم يسمعه، وهذا غلط‏.‏

وكذا حكاهُ إمام الحرمين في «البرهان» عن بعض المُحدِّثين، وقال‏:‏ هُم عُصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأُصول، يعني المُقتصرين على السَّماع، لا أئمة الحديث‏.‏

وقال الشَّيخ عز الدِّين بن عبد السَّلام، في جَوَاب سُؤال، كتبه إليه أبو محمَّد ابن عبد الحميد‏:‏ وأمَّا الاعتماد على كُتب الفِقْه الصَّحيحة الموثُوق بها، فقد اتَّفق العُلماء في هذا العصر، على جَوَاز الاعتماد عليها والإسْناد إليها، لأنَّ الثِّقة قد حَصَلت بها، كمَا تحصُل بالرِّواية، ولذلكَ اعتمدَ النَّاس على الكُتب المشهورة في النحو واللغة والطِّب وسائر العُلوم، لحصول الثِّقة بها، وبُعْد التَّدليس، ومن اعتقد أن النَّاس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك، فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جَوَاز الاعتماد على ذلك، لتعطَّل كثير من المصالح المُتعلقة بها، وقد رجع الشَّارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كُتبهم مأخوذة في الأصْل إلاَّ عن قوم كفَّار، ولكن لمَّا بعد التَّدليس فيها اعتمد عليها، كما اعتمد في اللغة على أشْعَار العرب وهم كفَّار لِبُعد التدليس‏.‏

قال‏:‏ وكُتب الحديث أولَى بذلكَ من كُتب الفِقْه وغيرها، لاعْتنائهم بضبط النَّسخ وتحريرها، فمن قال‏:‏ إنَّ شرط التخريج من كتاب يتوقَّف على اتصال السَّند إليه، فقد خرق الإجماع، وغاية المُخرِّج أن ينقل الحديث من أصل موثُوق بصحَّته وينسبه إلى من رواه، ويتكلَّم على علَّته وغريبه وفقهه‏.‏

قال‏:‏ وليس الناقل للإجماع مشهورًا بالعلم، مثل اشتهار هؤلاء الأئمة‏.‏

قال‏:‏ بل نصَّ الشَّافعي في «الرِّسَالة» على أنَّه يَجُوز أن يُحدِّث بالخبر وإن لم يُعلم أنَّه سمعهُ‏.‏ فليتَ شِعْري أي إجماع بعد ذلك‏.‏

قال‏:‏ واسْتدلاله على المَنْع بالحديث المذكُور أعجب وأعجب، إذ ليسَ في الحديث اشْتراط ذلك، وإنِّما فيه تحريم القول بنسبة الحديث إليه، حتَّى يتحقَّق أنَّه قاله، وهذا لا يتوقف على روايته، بل يكفي في ذلك علمه بوجُوده في كتب من خرَّج الصَّحيح، أو كونه نصَّ على صحَّته إمام، وعلى ذلك عمل النَّاس‏.‏